الاثنين، 27 أكتوبر 2014

أركان التوحيد والمعرفة بالله تعالى

أركان التوحيد والمعرفة بالله تعالى:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
 الحمد لله الجليل الجميل، والصّلاة والسّلام على النّبيّ الأميّ ـ فاتح باب العلم، وعين اليقين، سيدنا محمّد المصطفى الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمّا بعد:-
 فقال تعالى: ((وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ))، وقال ـ جلَّ شأنه: ((وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)).
"أي إخوتي": اعلموا أن أركان الطريق إلى الله تعالى ـ خمسة:-
الركن الأول: التوحيد، وعظيمه: التجريد والتفريد فيه.
أما "التوحيد": فهو الإقرار، وقطع الأنداد، أو تنزيه الحق عن دونه ـ جلَّ وعلا؛ قال تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)).
"والتجريد": هو الإخلاص فيه، وقطع الأسباب عن الفؤاد، واتخاذ السبب ظاهراً شرعياً، والتعلق بالمسبب هو الله وحده ـ جلَّ جلالُه،ُ وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ؛ قال تعالى: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))، وقال: ((أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)).
"والتفريد": هو الانقطاع، أو الفرار مما سوى الله إلى الله تعالى، بالإيمان السليم، والسير على النهج القويم؛ وهو سير الأحباب الموحدين، فمن صحَّ فرارُه إلى الله، صَحَّ قَرارُه مع الله؛ قال تعالى: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ))، وهذا هو الأساس العظيم لكل سائر إلى الله ـ عزَّ وجلّ، والبناء على ذلك الأساس العظيم هو التقوى بأوامر الله ـ عزَّ وجلّ، بالأركان الخمسة، والإخلاص بها؛ قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ))، وقبول ذلك بتعظيم شعائر الله أو حرمات الله تعالى، وهي: تقوى التعظيم؛ قال تعالى: ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ))، فإذا اجتمعت التقوى مع القلب في القرآن المجيد فهي علامة القبول من الحق ـ عزَّ وجلَّ ـ بتوفيقه، فتنبه؛ وكمالها: "تقوى الآداب"؛ كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ))، وأمثال هؤلاء قليل؛ قال الحسين ـ عليه السّلام والرضوان : من امتحن الله قلبه للتّقوى؛ كان شعاره القرآن، ودثاره الإيمان، وسراجه التفكر، وطيبه التَّقوى، وطهارته التَّوبة، ونظافته الحلال، وزينته الورع، وعلمه الآخرة، وشغله بالله، ومقامه مع الله، وصومه إلى الممات، وإفطاره من الجنّة، وجمعه الحسنات، وكنزه الإخلاص، وصمته المراقبات، ونظره المشاهدات.
الركن الثاني: "التخلية من المآثم الظاهرة والباطنة"؛ كما قال تعالى: ((وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ))، وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، فيجب علينا شرعاً: "التنزه من الأخلاق الرديئة"؛ كالغل، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، وهو: "أن تزدري الناس"، ونجتنب : الرياء، والعُجب؛ وهو: "أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك"، والسمعة، والبخل، والخبث، والبطر، والطمع، والفخر، والخُيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة بها، والمداهنة، والتزين للناس، وحب المدح بما لم نفعل، والعمى عن عيوب النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحَميّة والعصبيّة لغير الله، والرغبة والرهبة لغير الله تعالى، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب، والزنا، والفحش بالقول، واحتقار الناس، ولو كانوا دونه؛ وأذية القلوب في الله تعالى؛ فالحذر ثم الحذر من هذه الصفات الخبيثة، والأخلاق الرديئة؛ فإنها باب كل شر بل هي الشر كله، ويتساهل الناس في زماننا، والعياذ بالله ـ في هذه الطامات، وخاصة: الحسد، والعُجب، والرياء، واحتقار الناس، وحب الدنيا، وتأييد أهل الباطل والركون إليهم أعاذنا الله والمؤمنين جميعاً منها ظاهراً وباطناً. آمين.
والتحلية: بالأخلاق المرضية، والآداب السنية، وهي: دوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضا، والقناعة، والزهد، والتوكل، والتفويض، وحسن الظن، والتجاوز، والتحمل، والإيثار، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة، والغيرة على خلق الله تعالى، وجبر القلوب بالله ـ عزَّ وجلّ، والحياء من الله تعالى، ومن الناس لله، "ومحبة الله تعالى،  ومحبة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، ومحبة أحباب الله"، وهي: فضيلة جامعة لمحاسن الصفات الحميدة كلها، وإنما تتحقق بمتابعة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما قال تعالى: ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))، وقال أكمل الرسل ـ  صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ))، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
الركن الثالث: "ذكر الله ـ عزَّ وجلّ" ـ الذي هو من عظيم المقربات إلى ذات الحق ـ جلَّ وعلا؛ كما قال تعالى: ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً))،  روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يوم الْقِيَامَةِ؟ قال: ((الذَّاكِرُون اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)) قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِن الْغَازِي في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قال: ((لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ في الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَماً لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً))، وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم: ))أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِن إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى))، فقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ـ رضي الله عنه: (مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
والذكر له منازل:-
 فذكر اللسان مع القلب، هو: "ذكر السنة الطاهرة"؛ ومن ذلك أوراد الصالحين؛ والسنة هي روح السائر إلى الله ـ عزَّ وجلّ، ومن عظيم ذكر اللسان مع القلب هو ذكر القرآن المجيد؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)) رواه الترمذي وابن ماجه. "فرِقَة القلب في ثلاثة: الصلاة، وتلاوة القرآن، والذكر"، وذكر في القلب دونما حركة اللسان، والحضور بالفكر معه، وهي المراقبة؛ كما قال تعالى: ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ))، وفي الحديث القدسي: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي))، أي: من ذكرني بفكره المرادف للروح قلباً، رحمتُهُ رحمةً لا يَطلعُ عليها الملائكةُ، وهو ذكر العارفين بالله؛ قال ابن القيم في "المدارج": والتذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم.
قال الحسن البصري: (ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت)، وقال مفتي الحنابلة في بغداد الشيخ عبد القادر الجيلاني في "الفتح": إذا دام القلب على ذكر الحق ـ عزّ وجلّ ـ جاءت إليه المعرفة والعلم والتوحيد والتوكل والإعراض عما سواه في الجملة، دوام الذكر سببٌ لدوام الخير في الدنيا والآخرة، إذا صح القلب صار الذكر دائماً فيه يُكتب في جوانبه وعلى جملته فتنام عيناه وقلبه ذاكر لربه ـ عزّ وجلّ ـ يرث ذلك عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم، القائل: ((إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي)).
وقال الإمام الجنيد بن محمّد: فأما الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره فهو ما اعتقدته القلوب وطويت عليه الضمائر مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله والتعظيم لله والاجلال لله، واعتقاد الخوف من الله، وذلك كله فيما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب؛ والدليل على ذلك قوله ـ عزَّ وجلّ: ((يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ))، وأشباه ذلك وهذه أشياء امتدح الله بها فهي له وحده ـ جلَّ ثناؤه. وأما ما تعلمه الحفظة فما وكلت به وهو قوله: ((مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) ، وقوله: ((كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)) ، فهذا الذي وكل به الملائكة الحافظون ما لفظ به وبدا من لسانه. وما يعلنون ويفعلون هو ما ظهر به السعي، وما أضمرته القلوب، مما لم يظهر على الجوارح، وما تعتقده القلوب فذلك يعلمه ـ جلَّ ثناؤه، وكل أعمال القلوب ما عقد لا يجاوز الضمير فهو مثل ذلك والله أعلم. وما روي في الخبر من فضل عمل السر على عمل العلانية وأن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفا، فذلك والله أعلم لأن من عمل لله عملاً فأسره فقد أحب أن ينفرد الله ـ عزّ وجلّ ـ بعلم ذلك العمل منه ومعناه: أن الله يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم ـ جلَّ ذكره ـ بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقه من الثواب سبعين ضعفاً على ما عمل من لا يحل محله والله أعلم. انتهى.
وهذا من حيث الثواب، أما الدرجات فلا يعلم مداها إلا الله ـ جلَّ في علاه؛ لأن ذكرك بالله غير ذكرك بنفسك!!. فتأمل.
الركن الرابع: "الصحبة في الله"؛ قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ))، أي: كونوا مثلهم في صدقهم وثباتهم، وكونوا في صحبة الصادقين ـ لتنالوا حظهم.
والصديقون هم: الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السّلام ـ في المعرفة، كما قال ـ جلّ ثناؤه: ((وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً))، فقد ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ للذين أنعم الله عليهم أربعة أصناف على ترتيب منازلهم في القرب عند ذاته العلية، وحثّ كافة الناس أن لا يتأخروا عنهم عسى أن يلحقوا بهم؛ فالمرء على دين خليلة، والمرء مع من أحب؛ فيضاف حالهم بالله إلى حالك في الله؛ فيتجلى عليك الحق بالحالين منه وإليه ـ جلَّ وعلا، وهذا من محض فضل الحق وكرمه ـ جلَّ جلاله وعمَّ فضله ونواله. فتنبه.
فكونوا مع الصادقين: الذين صدقوا مع الله ـ تبارك وتعالى ـ باتباع دينه الحنيف، والحبّ الخالص لوجهه الكريم، وإخلاص الدعوة ـ بالحكمة والموعظة الحسنة لهذه الأمة المرحومة، بالهمة والتحمل في سبيل الله تعالى، والمحبة لأحباب الله بحب الله هي كمال الحب الإلهي.
وقال الإمام الشافعي: لولا صحبة الأخيار، ومناجاة الحق تعالى بالأسحار، ما أحببت البقاء في هذه الدار.
وقال الشيخ ابن تيمية: فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب؛ فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابه الصالحين وتصورتهم في قلبك؛ فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم لله؛ فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصاً لله؛ فإن الله هو محبوبه، فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله، وقال: ومن كمال محبة ذات الله أن تحب من أحب الله. كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه آله وصحبه وسلم: ((أولياءُ الله الذين إذا رُؤُا ذُكر الله)) رواه البزار .قال الألباني: صحيح.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: إذا رأيت نفسك معرضة عن أهل الله فاعلم أنك مطرود عن باب الله.
وقال الشيخ أبو تراب النخشبي: إذا ألِفَ القلب الإعراض عن الله، صحِبَه الوقيعة في أولياء الله.
وأقول: أولياء الله متحققون بحب الله، والتعرض لهم تعرض لحب الله، والإعراض عن حب الله، إعراض وجفوة عن الله ـ عزَّ وجلَّ، من وفِق للطاعة، والذكر، والصحبة؛ أُكرم بالحال مع الله تعالى؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَعَلَى فُرُشِكُمْ))، رواه مسلم وأحمد والترمذي، وفي لفظ مسلم: ((وَلَوْ كانت تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ. لَصَافَحَتْكُم الْمَلائِكَةُ. حتى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ في الطُّرُقِ)). 
روى الكبار y: أن أبا الحسين النوري صاحب السرّي السقطي ـ رضي الله عنهما ـ قال لأصحابه يوماً وهو في رصافة بغداد: قوموا حتى نذكر الله تعالى عند الشيخ معروف الكرخي ـ في كرخ بغداد، فقالوا يا شيخنا: الله مع الذاكر أينما كان، ألا نذكر الله هنا؛ فقال النوري t: هنا نذكر الله بما عندنا، وهناك نذكر الله بما عند الشيخ معروف الكرخي ـ رضي الله تعالى عنه؛ أي: هنا نذكر الله بحالنا، وهناك نذكر الله بحال الشيخ معروف الكرخي ـ رضي الله عنهم جميعاً.    
"أيُّ سادة": هذه الصحبة في المحبة لله ليست للوجوب الشرعي، وليست للتضليل والتفسيق والتبديع، إنما هي لكمال الإيمان، والتنافس، ومعارج القرب والرضا. فلنتأمل.
فلو أوجبنا الصحبة في طريق أهل الله على الأمة؛ لأدخلنا عامة الناس، وكثيراً من علماء الأمة ودعاتها النار ، لتركهم الواجب، فنسأله السلامة من التسرع وعدم الانتباه إلى رحمة الله على خاصة الأمة وعامتها؛ إنما هي "لليقين والمحبة والتزكية" ـ في معارج القرب والرضا.  
الركن الخامس: "الدعوة والخدمة لهذه الأمة المرحومة"؛ قال تعالى حاكياً عن لقمان في وصيته لابنه:     ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)).
وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ))، رواه مسلم.
ـ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمُّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله: لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.
وقد كان الذي خِفْنَا أن يكون. فإنَّا للهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسالَ البهائم، وعَزَّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسَدِّ هذه الثلمة إمَّا متكفلاً بعملها، أو متقلداً لتنفيذها، مجدداً لهذه السنة الداثرة، ناهضاً بأعبائها، ومُتَشَمِّراً في إحيائها: كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبداً بقربة تتضاءَل درجات القرب دون ذِرْوتِها.             
وقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ لا يُغَيِّرُونَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ))، رواه الترمذي وابن ماجه؛ وفي أخرى: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَم يُغَيِّرُونَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَاب))، رواه احمد. والمعنى: فإن الله ينتقم من الأمة إذا تركوا النهي عن المنكر، فينزل بهم نقماً ونكبات في الدنيا قبل الآخرة، ولا شك أن البلاء الذي وقع على المسلمين في هذه الأزمنة هو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا بد من التبليغ غيرةً لدين الله، وأُمةِ الإسلام، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ الِلَّهِ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ))، رواه ابن حِبّان .
وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام: ((إذا عَظّمتْ أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي، وإذا تسابت أمتي سقطت من عين الله)). قوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((إذا عَظّمتْ أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام))، لأن شرط الإسلام: تسليم النفس، وبذلها لله تعالى عبودة، فإذا عظم ما صغر الله تعالى وحقرها، وقد أخذت بقلبه فسبته ذهبت العبودة، ولم يقدر على بذل النفس لله تعالى فكان إسلامه مدخولاً، وإذا فسد الباطن ذهبت الهيبة ـ لأنه لو هابه لم يستقر قراراً حتى يصلح باطنه، و إنما يهابه من صلحت سريرته؛ قال ـ صلى الله عليه وسلم: ))تمام البر أن تعمل في السر عمل العلانية((، وإذا عظّمت النفس الدنيا آثرها على حقوق الله تعالى، ولا يجتمع تعظيم الحقوق وتعظيم الدنيا في قلب، فأما إذا أسلم نفسه ووجهه إلى الله تعالى وبذل نفسه لله تعالى عبودة صار من رجال الله تعالى وعبيده وخاصته، فتعلوه مهابة، كما إذا صار عبداً للملك ظهر عليه من بهجة ملكه وغناه ووجدت له هيبة، فعبيد الله صدقا عليهم من الله تعالى طلاوة وحلاوة وملاحة ومهابة، فإذا غيروا وبدلوا فعظموا الدنيا بخراب قلوبهم فقد ارتجعوا في نفوسهم فذهبت الهيبة؛ لأنه الآن ليس من عبيد الملك، إنما هو عبد نفسه وهواه ودنياه وشهواته وسلطانه. وقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي))،  فإن في ترك ذلك خذلانا للحق تعالى، وجفوة للدين، وفي ذلك ذهاب البصيرة، وفقد النور، فيصير القلب محجوبا، فيحرم بركة الوحي، فيقرأه ولا تعي اذنه منه شيئا، قد حرم فهمه، وهو من أعلم الناس باللغة وأبصرهم بتفسيره، وقد عمي عن لطائفه ومعانيه ووعده ووعيده وأمثاله، لأنه إذا وقع من لسانه في أذنه صار إلى قلب صدره مظلما، فكأنه قد غرق في لجة، إنما هو كلام يدخل سمعه فإذا صار إلى الصدر صار في عمى، والذي أشرق صدره بالنور فعلى قلبه ينابيع الفهم، يلتذ باللطائف أحلى من القطائف، ويفرح بالوعد، ويحذر الوعيد، ويرغب ويرهب، ويعتبر ويتعظ، فهذا بركة الوحي.
 وقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((وإذا تسابت أمتي سقطت من عين الله))، لأن بدوه الكبر والإستحقار للمسلمين، والحسد والبغي والتنافس في أحوال الدنيا، فبهذا سقط من عين الله؛ والساقط من عينه قد خرج من كلاءته وحفظه ورعايته، فليستعد للخذلان في نوائب الدين والدنيا، فإنه إذا زالت عنه رعايته ذهبت عصمته، وله في كل نائبة ورطة حتى تؤديه إلى الورطة الكبرى سلب الدين، والانتكاص على العقبين، ومن سقط عن عينه لم يبال في أي واد هلك. والعياذ بالله تعالى منه. وكما في  [نوادر الأصول].
  واعلم جيداً: أن الدعوة في سبيل الله تكون باللسان والقلم والتربية ـ ذوقاً وسلوكاً ـ في مقامات الرجال التي تُهيأ للأُمةِ؛ والجهاد في سبيله ـ بالدعوة والمال وجهاد النفس والأنفس، غيرةً لله ـ عزّ وجلّ، لتكون: ((كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
واعلم أيها الأخ الأعز: من زاد مقامه عند الله تعالى ـ زادتْ غَيْرَتُهُ على دينه وأهله والمسلمين، ومن ضَعُفَتْ غَيْرَتُهُ ضَعُفَ دينه، وابتعد عن الله تعالى، فكان عليه الذل والهوان في الدنيا والآخرة.
اللَّهمَّ؛ اشغل جوارحنا بطاعتك، وقلوبنا بمعرفتك، وذكرك، وأنسك، واشغلنا طول حياتنا في ليلنا ونهارنا، وألحقنا بالذين تقدموا من الصالحين، وارزقنا ما رزقتهم وكن لنا كما كنت لهم، آمين.
اللّهم؛ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين. واعلِ كلمة الحق، والنور المبين.       
إِنْ أَبْطَأَت غَارَةُ اْلأَرْحَامِ وَابْتَعَدَتْ، فَأَقْرَبُ الشَّيْءِ مِنَّا غَارَةُ اللهِ، ياَ غَارَةَ اللهِ حُثِّي السَّيْرَ مُسْرِعَةً فِي حَلِّ عُقْدَتِناَ، يَا غَارَةَ اللهِ عَدَا الْعَادُونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْناَ اللهَ مُجِيراً ((وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً)) ((حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) ، ولا حَوْلَ وَلا قَوَّةَ إلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم، عدد ما علم، وزنة ما علم، وملأ ما علم.     
اللّهم؛ رضينا بك كفيلا، فكن اللّهم لنا وكيلا، يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت. ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).   
((سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
لحضرة الشيخ عباس الحسني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق