الاثنين، 27 أكتوبر 2014

"العارف بالله تعالى"


"العارف بالله تعالى":
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله حمداً يرضاه لذاته، حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيا ربّنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والصّلاة والسّلام على باب رحمته وحضرته ـ حبيب ربِّ العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين ـ عليه وعليهم أجمعين، ورضي الله عن آل بيت النَّبيِّ المكرمين، وأصحاب رسول الله، وتابعيهم بإحسان ـ من أهل دينه، ومحبته، وأخلاق نبيه، ودعوته إلى يوم الدين. آمين.
أمّا بعد: فقال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» رواه مسلم، وهذا الذوق المنبعث عن هذا الرضا؛ هو المعرفة بالله تعالى، والمعرفة نور أسكنه الله قلب من أحبه من عباده، ولا شيء؟ أجل وأعظم من ذلك النور، وحقيقية العارف بالله "حياة القلب بالمحيي"، كما قال ـ جلَّ مجده: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}.
"أي سادة": العلم والطاعة، هما الأساس والبناء للمعرفة الإلهية، والمعرفة كمال بهما ـ صفاءً وإخلاصاً وخوفاً من الله ـ جلَّ وعلا، مع كمال الذل والخضوع إلى الله ـ عزَّ وجلَّ، وأكمل الأمر: المعرفة بالله، والخشية له ـ جلَّ جلاله، كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا» رواه البخاري، وفي أخرى: «فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» متفق عليه. وهذا لأعظم مقام ألا وهو: الرضا، لقوله ـ جلَّ ثناؤه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.
قال أهل العلم: المعرفة في الأصل: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وقد تشتبه المعرفة بالعلم، مع أنَّ معنى المعرفة أخص من العلم؛ فمعرفة البشر لله ـ تبارك وتعالى، هي بتدبر آثاره، دون إدراك ذاته، والعلم هو: ما يدرك بواسطة كسب، أو بلا واسطة، والمعرفة، هي: ما يدرك بواسطة من الكسب فقط. كما أن المعرفة تفترق عن العلم استعمالاً في أن العلم يقال لإدراك المركب، والمعرفة: تقال لإدراك البسيط.
ومن المعرفة: جاء وصف "العارف"، وهو المختص بمعرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومعرفة ملكوته، وحسن معاملته؛ وبهذا تكون المعرفة أعظم درجة من العلم، "ومن هذا الباب تصبح المعرفة خُلُقاً من أخلاق القرآن الكريم، وفضيلة من فضائل الإسلام العظيم، وجانباً عظيماً من هدى الرسول الكريم ـ صلوات الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم".          
قال بعض العارفين: العلماء العاملون أخذوا بالنصوص في العموم والخصوص؛ فهم في أعمالهم وأقوالهم مقيدون بالنص عاملون به كلّ منهم على ما ذهب إليه إمامه ذاهب، وبقوله قائل، وبعلمه عامل، اتخذوه دليلاً، وقلَّد في أعماله المعصوم الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم، لا ينفك أحدهم عن هذا النمط الكريم أبداً، فهو وليّ من أولياء الله تعالى ـ يُتَّبع، ويُعتقد، ويُقبل قوله، ويُنقل.
والمشايخ العارفون: أخذوا من العمل بالمنصوص، بإشغال القلوب، وتهذيبها بالإخلاص الكامل في كلّ أعمالهم، وبالمخالفة لنفوسهم في كلّ أحوالهم، حتى انتهضوا للأخذ بالعزائم، وعدوا الأخذ بالرخص من أحوال الضعفاء، وتحققوا بالاتباع ـ بالقول، والعمل، والحال، ومشربهم هذا، هو: عين مشرب العلماء العاملين، غير أنهم دققوا النظر بإحكام الأحكام التي جاء بها الخبر، فلذلك ظهر على أيديهم آثار تلك الأحوال النبوية الصادقة، وأفاض الله تعالى إليهم كلّ مزية جليلة، وكلّ كرامة خارقة، فورد: ((معرفة الله تعالى: "رأس العلوم"))، وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ»، وهذا بتوفيق الله ـ عزَّ وجلَّ، لكمال الإيمان، ومحض العرفان.   
وأجلهم من تحلّى مع هذا الحال بالعلم النيّر بين العمل الشرعي، والحال بالله تعالى؛ فمثل ذلك الرجل يُعدّ من أعيان الفريقين، ومن صدور الطائفتين، وهم وإن قسمناهم إلى قسمين، وعددناهم طائفتين، ففي حقيقة الأمر هم ركب واحد، كلهم في عمله إلى الله راجع وعائد ـ رضي الله تعالى عنهم جميعاً، ورثوا الأنبياء الذين لا نفرق بين أحد منهم ـ صلوات ربّي عليهم جميعاً، وعلى خاتم النبيين والمرسلين ـ أفضل الصلوات والتسليم.  
قال يحيى بن معاذ: ((المعرفة قرب القلب إلى القريب، ومراقبة الروح للحبيب، والانفراد عن الكل بالملك المجيب)). يروى أن الله تعالى أوحى إلى داود ـ عليه السّلام: «يا داود، اعرفني، واعرف نفسك»، فتفكر داود، وقال: إلهي عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء، وعرفت نفسي بالعجز والفناء، فقال: «آلان عرفتني».  
"أي سادة": العارف بالله: من عرف ربّه واتقاه، حاضر الفكر، مستمر الذكر بالله، أنسه وافتقاره في خدمة مولاه؛ ومنازل العارف ثلاثة: عارف في الله، وعارف لله، وعارف بالله، أما العارف في الله، فهو: صاحب معرفة، وعارف لله، وهو: صاحب أحوال ومقامات بالله ـ جلَّ وعلا، وعارف بالله، وهو: المتحقق، والوارث المحمدي، وهو: صاحب "فناء وبقاء"؛ فالفناء هو التجرد بما لا يليق، باستغراقك بعظمة الباري الجليل، والبقاء: بقاؤك بما أمرك وأحبك ـ جلَّ جلاله ـ فتكون بين الإنابة والخدمة، والحضور والذكر ـ شوقاً وأنساً؛ فذهابك إلى الله تعالى، بتوفيق الله ـ جلَّ جلاله، وعمَّ فضله ونواله. فالأول: علم العارف ورجاؤه، والثاني: حال العارف وقبوله، والثالث: تحقيق العارف، وتوفيقه وتأييده الربّانيّ. فتأمل .
قال أبو العلمين أحمد الرفاعي: المعرفة، هي كشجرة لها ثلاثة أغصان؛ توحيد، وتجريد، وتفريد؛ فالتوحيد بمعنى الإقرار، والتجريد بمعنى الإخلاص، والتفريد بمعنى الانقطاع إليه بالكلّية في كل حال؛ وأول مدارج المعرفة: التوحيد، وهو: قطع الأنداد، والتجريد، وهو: قطع الأسباب [أي عن الفؤاد]، والتفريد، وهو بمعنى الاتصال بلا سير، ولا عين، ولا دون؛ ولها خمسة طرائق، أولها: الخشية في السر والعلانية، والثانية: الانقياد له في العبودية، والثالثة: الانقطاع إليه بالكلية، والرابعة: الإخلاص له بالقول والفعل والنية، والخامسة: المراقبة في خطوة ولحظة.
قال أنس ـ رضي الله عنه: قيل يا رسول الله، لو شاء الله أن يدوم البقاء لأوليائه في الدنيا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله أن يجعل الخلود لأوليائه في الدنيا، بل أختار لأوليائه وأحبابه ما عنده من جزيل كرماته، أما تعلمون أنَّ الحبيب يشتاق إلى الحبيب؛ فطوبى لمن كان روحه وراحته في لقاء الله».
وحكي أن الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ حضرته الوفاة، وكانوا يلقونه الشهادة، ففتح عينيه، وقال: إلى متى تدعونني إليه، وأنا محترق به منذ عشرين سنة. وبكت رابعة العدوية عند موتها، وضحكت من ساعتها، فقيل لها في ذلك، فقالت: أما بكائي فمن مفارقة الذكر آناء ليلي ونهاري، وأما ضحكي فمن سروري بلقائه، وماتت من لحظتها.
قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مناجاته: «إلهي؛ إذا قرّت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فقر عيني بك، وقرّ عيني بلذائذ أنسك، والشوق إلى لقائك»، يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، حسبنا أنت والمسلمين، طوبى لمن أكتفى بك منك، اللَّهمَّ؛ لبيك لبيك يا حبيب القلوب، لبيك يا سرور القلوب، لبيك لبيك يا منى القلوب، لبيك اللَّهمَّ آليت بك عليك، أن لا تصرفني بك عنك، ولا تحجبني بك عنك، إلهي؛ أنت سروري إذا نظرت منك إليك، وأنت حسبي إذا استكفيت بك منك، وأنت أنيسي إذا نزلت منك بك، اللَّهمَّ؛ ارحم انقطاعي إليك، وانفرادي بك، ووحشتي عمن سواك، فيا خير مؤنس وأنيس، ويا خير صاحب وجليس، كن دليلي منك وإليك، إلهي؛ اجعل أجل العطايا في قلبي حياؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحب الساعات إليَّ ساعة يكون فيها لقاؤك.
اللَّهمَّ، ارضَ عنّا، وعن والدينا، وإخواننا بحبك، وارحم أمة حبيبك ومصطفاك ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ اللَّهمَّ ارحمنا بالأمة، وارحم الأمة بنا، يا الله ـ تبارك وتعالى ربّنا وتقدس. اللَّهمَّ يا محول الحول والأحوال، حولنا وبلادنا وبلاد المسلمين من حال إلى أحسن الأحوال، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين، صلِّ على عبدك وحبيبك خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، من سائر عباد الله وأحبابه من العارفين، والأولياء والصالحين، آمينَ آمينَ آمين. 
  لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق