الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

رسالة "اطمئنان القلب بالله تعالى"

رسالة
"اطمئنان القلب بالله تعالى":
الحمد لله الذي أشغل عباده بذكره، وآنسهم بحبه، وأغناهم بجلال جمال قدسه، والصّلاة والسّلام على سيد أنبيائه وأحبابه، الذي جعله رحمة لكل خلقه، وارضَ اللَّهم عن آله وأصحابه، وأهل محبته ورشده، فرضوان الله عليهم إلى يوم حشره.
أمّا بعد: فقد قال تعالى: ((الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))، ((الَّذِينَ آَمَنُوا)) بتوحيد الحق ـ جلَّ وعلا. ((وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ)) أي: تسكن قلوبهم وتستقر باليقين إليه، فتزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها بالله ولذاتها بأُنسه.
((أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ))، قال مقاتل: بالقرآن، والسكون يكون باليقين، لأن طمأنينة القلوب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها، فإنها تدل على الحق المبين، المؤيد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن "إلا باليقين والعلم"، وذلك في كتاب الله مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها.
((تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) أي: حقيق بها، وحريٌّ أن لا تطمئن بشيء سوى ذكره، فإنه والله؛ لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له يكون ذكرها له ـ من حضور وذكر في القلب ومن تسبيح وتهليل وتكبير ومناجاة وغير ذلك.
"أي سادة": إن ذكر العبد لله تعالى، في إضافة ذكر الله تعالى للعبد، كالغبار تحت الأمطار. ولله در القائل:-
بذكرك تحيى مهجتي يا مُؤملي وذكرك لي من قبل ذكري أكبر
مننت بطَول لا أقوم بشكره فأي أياديك الجزيلة أشكر
قال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه! ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه! وحبه يدهش العقول، فكيف وده! ووده ينسى ما دونه، فكيف لطفه!. يا ودود، يا لطيف يا واسع يا عليم، يا الله. آمين.
"أي أخي": "المؤمنون يستأنسون بالقرآن"، "وذكر الله الذي هو الاسم الأعظم"؛ فقلوب العوام تطمئن بالتسبيح والثناء، وقلوب الخواص بحقائق الأسماء الحسنى، وقلوب الأخص بمشاهدة الله تعالى. أي: "حضوراً بالفكر، وذكراً في القلب"؛ قال الإمام الكَيلاني: رؤيتنا لربّنا بعين قلوبنا، كرؤيتنا بعين رؤوسنا، ولكن الرؤية ممنوعة.
قال قائلهم:-
إن كنت لَستَ معي فالذكر منك معي قلبي يراك وإن غُيِّبْتَ عن بصري
وقال آخر:-
بكلِ العينِ رأتْكَ العينُ عيني عيونٌ ناظراتٌ لكلِّ عيني
فلاَ عينٌ ولا نظر بعينِ بصائرُ اختفتْ عنْ كلِّ عينِ
قال يحيى بن معاذ: المعرفة قرب القلب إلى القريب، ومراقبة الروح للحبيب [جلَّ جلالُهُ]، والانفراد عن الكل بالملك المجيب.
"أي أخي": كيف تكون الطمأنينة والوجل، في قوله تعالى: ((وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)) وقوله: ((وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ)) في حالة واحدة؟ قال العلاّمة علاء الدين علي البغدادي، في "تفسيره": "إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب"، "والطمأنينة إنما تكون عند الوعد والثواب"؛ "فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه وعقابه"، "وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه ـ جلَّ جلالُهُ وعمَّ فضله ونوالُهُ".
قلتُ: وهذا حال العبد السائر إلى الله تعالى، يكون بين الخوف وجلاً، وبين الرجاء طمأنينةً، أو بين الخضوع والخشوع، والحضور والذكر، والافتقار والشوق ـ وفي حياته كلها، في ساعات الليل والنهار؛ وهذا حال العارفين بالله ـ عزَّ وجلَّ.
جناتُ ذِكركَ في الفؤادِ معالمٌ ومعاني حُبكَ للجِنانِ حَنانُ
وودادُ حُبّكَ للجِنانِ مَحاسِنٌ تبقى وحُبِّكَ للنعيمِ جِنانُ
قال يحيى بن معاذ: الذكر أكبر من الجنة، لأن الذكر نصيب الله، والجنة نصيب العبد، وفي الذكر رضاء الله، وفي الجنة رضاء العبيد.
قال سيدنا علي المرتضى ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه: إن الله تعالى يتجلى للذاكرين عند "الذكر وتلاوة القرآن"، ولا يرونه لأنه أعز من أن يُرى، وأظهر من أن يخفى، فتفردوا بالله سبحانه، واستأنسوا بذكره، وما نزلت بأحد نازلة إلا وفي كتاب الله لها دليل من الهدى والبيان.
اللَّهمَّ؛ اشغل جوارحنا بطاعتك، وقلوبنا بمعرفتك، وذكرك، وأنسك، واشغلنا طول حياتنا في ليلنا ونهارنا، وألحقنا بالذين تقدموا من الصالحين، وارزقنا ما رزقتهم وكن لنا كما كنت لهم، آمين. والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق