المرتبة السادسة من رسالة مراتب الكمال: العلم ومنازلة:ــ
أما العلم، فهو: إدراك، ولا إدراك من دون حياة، ولا حياة دون روح، فلا علم دونما روح؛ ومراتب دلالته ثلاثة:-
المرتبة
الأولى: دلالة الكتاب والسُّنَّة، وشريعة الله الإسلام، قال تعالى: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: كل ما أمركم به
فخذوه، وكل ما نهاكم عنه فاحذروه واجتنبوه، فلكل عبدٍ سائر بأحواله إلى
الله، أمور ثلاث:1ـ أوامر يمتثلها. 2ـ ونواهي يجتنبها.3ـ وقدر يرضى به؛
وعلامة رضاء الله، الرضا بما قدر الله.
المرتبة الثانية: ما يراد من دلالة الكتاب والسنة بأدلة الشريعة الغراء، وهذا ينقسم إلى قسمين: -
القسم
الأول: "علم العامة"، وهو: المتألف من الأحكام التي لا يسع إنساناً بالغاً
عاقلاً من الذكور والإناث إلا العلم بها ما دام فرداً من أفراد الأمة،
وهو: "المعلوم من الدين بالضرورة" أو "علم الدين الضروري الواجب"، كما قال
تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، وقال ـ جلَّ ثناؤه:
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُون}.
القسم
الثاني: "علم الخاصة"، وهو: المتكون من الأحكام والقواعد القانونية
المفصلة التي يختص بمعرفتها الفقهاء والمجتهدون دون سائر الناس، كما قال
تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فإنَّ من
العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية، وهو "النّص"، ومنه ما يدرك بالاستنباط،
وهو: على المعاني المودعة في النصوص وهي: "الأحكام".
المرتبة
الثالثة: وهي تحقيق العلم، وهي: حقائق العلوم، وهو: علم أهل المعرفة
بالله؛ كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ}، وقال ـ جلَّ مجده: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ}، وهي: إحكام الأحكام. والحكمة: سر
النبوة، وفُسِّرَتْ بأنها: شيء يجعله الله في القلب ينور له به، قال مجاهد:
هي القرآن والعلم والفقه. وقال الحسن: من أُعطي القرآن فكأنّما أُدرجت
النبوّة بين جنبيه إلّا أنه لم يُوحَ إليه. فالحكمة، هي: العلم بحقائق
الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها؛ من علم وعمل وحال بالله تعالى،
قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ
بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ
أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ
الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ
المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا
وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ
قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ
فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ
وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ
يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه.
قال
القرطبي وغيره: ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما جاء به من الدين
مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال
الناس قبل مبعثه. فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين تحيي
القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث،
فمنهم العالم العامل المعلّم فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في
نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير
أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه أدّاه لغيره، فهو بمنزلة
الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله:
«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا
وَبَلَّغَهَا»، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله
لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده
على غيرها، وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين،
لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع
بها)).
قلت:
شرط العالم أن يعظ نفسه، ويبلغ أمانة دين الله الإسلام لأمة خاتم النبيين
ورسل الله ـ صلوات ربّي عليه، وعليهم أجمعين إلى يوم التناد؛ فهو بين
الإنابة والتبليغ سيراً برحمة الله إلى ذات رحمته ـ جلَّ في علاه.
اللَّهمَّ؛
يا حيّ يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلّه ولا
تكلني إلى نفسي طرفة عين، اللَّهمَّ؛ أنت أحق ذُكِر، وأحق من عُبِد، وأنصر
من ابتغي، وأرأف من مَلك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك
لك، والفرد لا ند لك، وكل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك ولن تعصى
إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفِر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت بين
النفوس وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال والقلوب لك مفضية،
والسر عندك علانية، والحلال ما أحللت والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت
والأمر ما قضيت، والخلق خلقك والعبد عبدك أنت الله الرؤوف الرحيم، أسألك
بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين
عليك أن تقينا من هذه الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأنت تجيرنا من النار
بقدرتك، وتدخلنا الجنة برحمتك، حسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا، وهو
ربّ العرش العظيم.
اللَّهمَّ؛
إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك
الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراءٍ مضرة ولا فتنةٍ مضلة، وأعوذ بك من
أن أظلِم أو أُظلَم أو أعتدي أو يعتدى عليَّ، أو أكتسب خطيئة أو ذنباً لا
تغفره إنك أنت الغفور الرحيم. تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيرًا}.
اللَّهمَّ؛ صلِّ على سيدنا محمّد صلاةً لا تُعد ولا تُحد، ولا يحصي ثوابها
أحد، يا رازق النعاب في وكره، يا رازق العبد الشكور ومن جحد، يا من صفاته
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وعلى آل بيت النّبيّ،
وأصحاب رسول الله ومن ركع لله وسجد، والحمد لله إلى أبد الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق